"الحزب" يصنع "كربلاءه" ويراهن على أميركا
دائماً ما كان عبد الحليم خدام، وزير خارجية سوريا الأسبق فنائب رئيسها يردّد، أن «نفس الأميركيين قصير»، حسبما نقل عنه بعض السياسيين في سِيَرِهم. هذا القول يعد مفتاحاً في فهم مقاربة نظام «آيات الله» في إيران لعلاقته الشائكة مع أميركا، واعتماده مبدأ معاوية بن أبي سفيان الشهير «لو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما قطعتها، إنْ مدّوا خلّيتها وإنْ خلّوا مددتها»، مُستبدلاً «الناس» الذين لا وزن لهم في نظره، بالدولة التي تتحكم بصناعة القرار في العالم.
والحال أن هذه المقاربة تعد القطبة المخفية في النهج الذي يعتمده «حزب الله»، ابن «الخمينية» البار، لترميم قواه وإعادة إنتاج نفوذه، غداة التحولات الجيوسياسية العاصفة التي كادت تطيح به تماماً، لولا مسارعته إلى توقيع «اتفاق إذعان»، استطاع تأمين إخراج جيد له يتيح هامشاً من المناورة في خطابه السياسي.
يتوكّأ «حزب الله» في مقاربته هذه بشكل أساسي على حقبة الثمانينات في لبنان، معتبراً أن ما يتعرض له اليوم من خطر وجودي هو إعادة تجسيد لها، مع فارق جوهري يمنحه المزيد من الصلابة، ويتمثل في كونه حزباً لبنانياً ولو كان يعتنق أيديولوجيا أممية راديكالية. في أدبياته كان إخراج «منظمة التحرير» من بيروت عام 1982 بداية العصر الأميركي الذي تُوّج بـ «اتفاق جلاء القوات الإسرائيلية عن لبنان».
لكن حافظ الأسد استطاع استيعاب صدمة التغيير الكبير آنذاك وشنّ هجمة مرتدة، حيث راح يضغط على النفوذ الأميركي في لبنان بطرائق عديدة من ضمن استراتيجيته الأثيرة بتجميع أوراق اللعب لتعزيز وضعه التفاوضي. من بينها دعم «حزب الله» الحديث الولادة لإنزال ضربات موجعة بالنفوذ الأميركي، مثل تفجير «المارينز» الشهير، وكذلك السفارة القديمة في «عين المريسة»، والجديدة في «عوكر»، وغيرها.
وهذا ما دفع بواشنطن إلى تقليص دعمها لحكم أمين الجميل، والتخفيف من انغماسها في «المستنقع اللبناني» لكلفته الباهظة وعوائده السياسية المحدودة. في موازاة فتح حوار مع دمشق، أفضى في نهاية المطاف لاعترافها بالنفوذ السوري في لبنان، وصولاً إلى تقديمه هدية على مذبح صفقة جيوسياسية لا نزال ندفع أثمانها حتى اللحظة.
يُعيد «حزب الله» «بعث» تلك الاستراتيجية اليوم، محاولاً استنزاف الاندفاعة الأميركية لتطويقه عبر إغراقها في التفاصيل المحلية، ولذلك يرفع من سقف خطابه وتحدياته في الاستحقاقات المتوالية، رغم معرفته بمحدودية هامش المناورة لديه، ملتحفاً بشعار «الطائفة المجروحة» الذي يبتغي من خلاله صنع «كربلائه» الخاصة لشد العصب الشيعي، وفي الوقت عينه بثّ الخوف من خياراته الانتحارية ولامبالاته إزاء سقوط دماء، انطلاقاً من كونه لم يعد لديه ما يخسره. ورهانه قائم بالدرجة الأولى على استمرارية تأثير وهج سلاحه في العقل السياسي اللبناني، ولا سيما مع الاستحضار الدائم لـ «7 أيار» و «6 شباط».
يعلم عقل «الحزب» أكثر من الجميع حجم الخسائر التي مُنيَ بها، ومدى عمقها معنوياً وسياسياً، لكنه لن يقدم على نحر نفسه من خلال الانتظام في ركب الدولة، لأنها وإيّاه خطان لا يلتقيان، بل يعمل على تفخيخ مسارات العملية الديمقراطية بكل ما تبقى لديه من أدوات، فيصرّ على إغراق عملية تأليف الحكومة في أتون المماحكات. والأمر نفسه سينسحب على الاستحقاقات المقبلة، حتى أصغر تفصيل فيها.
وهذا ما يكسبه وقتاً ثميناً يُعينه على ابتكار حلول لمعضلة التمويل والسلاح الإيرانيين، لإنجاز عملية ترميم خلاياه ونفوذه في آن، فيما تكون الاندفاعة الأميركية خفتت لحساب أولويات مستجدّة، وفي ذهنه ترتسم صورة تنظيم «طالبان» الذي شنت عليه أميركا حرباً طاحنة إثر «11 أيلول 2001»، لتعود بعد عقدين فتسلمه حكم أفغانستان. فإذا كان «طوفان الأقصى» بمثابة «11 أيلول» جديد عاد بالوبال على إيران وأذرعها، فإن «قِصَر النَفَس الأميركي» ربّما يدفعها إلى إعادة الاعتراف بنفوذ الملالي وصنائعه خلال وقت أقصر.
لطالما راهن نظام الأسدين على عامل الوقت لتغيير موازين القوى ووأد أي تحول جدي، وفي النهاية سقط سقوطاً لا قيامة بعده، لكن سقوطه استنزف وقتاً طويلاً وأرواحاً كثيرة. لذلك من الأهمية بمكان استغلال الفرص التاريخية التي لا تلوح دائماً كي لا نعيد إنتاج المأساة نفسها. فيكون إذّاك فائض احتضان «الطائفة المجروحة» طريقاً «كربلائياً» نحو ترسيخ «انتصار» الهزيمة، وصولاً إلى فائض القوة من جديد في «ثلاثية» قاتلة.
سامر زريق - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|